العطاء والتصدي للأوبئة

يتكبد العالم خسائر فادحة بسبب انتشار الأوبئة تبلغ قيمتها ما بين 570 مليار و4 ترليون دولار – حسب حدة وانتشار هذه الأوبئة، وفقاً لتقديرات 'التحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة' (CEPI). وليس من المستغرب أن تكون التكلفة هائلة، خاصة عند النظر إلى الشلل الاقتصادي الذي سيطر على العديد من الدول حول العالم خلال الأشهر القليلة الماضية بسبب جائحة كوفيد-19.

لكن المستغرب حقاً هو كيف لم يتم توقع هذه الجائحة والتأهب لها. فقد كان تفشي 'متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد' (SARS) و'متلازمة الشرق الأوسط التنفسية' (MERS) خلال العقدين الماضيين من الزمن بمثابة إنذار قوي باحتمال تفشي مثل هذه الجائحة على نطاق عالمي واسع. إن تفشي فيروس الإيبولا في غرب أفريقيا عام 2014 وحده استغرق أكثر من عام حتى تم احتواؤه – على الرغم من وجود لقاح تحت التطوير منذ ما يزيد عن عشرة أعوام.

علّق بيل غيتس عندما كانت تلك الأزمة في أشدها عام 2015 بقوله إن نسبة الوفيات العالية الناجمة عن إيبولا كانت بالنهاية سبباً في انحسار تفشي المرض واحتوائه، إذ أن الطبيعة الحادة للمرض تقعد المصابين ضمن محيط العدوى.

وأضاف غيتس قائلاً: "قد لا يسعفنا الحظ عندما يتفشى المرض في المرة القادمة. فمن دون علمهم بأنهم مصابون، قد يشعر البعض بأنهم قادرون على التنقل والذهاب إلى السوق أو السفر بالطائرة رغم قدرتهم على نقل العدوى".

يعد غيتس صوتاً بارزاً بين أقرانه من الجيل الحالي من رواد العطاء في مجال الوقاية والاستجابة للأمراض. فقد ساهم في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات مثل الصندوق العالمي للاستثمار في الصحة (GHIF). وكانت الاسهامات الرأسمالية لهذا الصندوق، الذي قامت بهيكلته مؤسسة 'لايونز هيد' Lion’s Head، ناجحة جداً في توجيه استثمارات القطاع الخاص إلى مكافحة الأمراض.

وهذا النوع من العطاء هو ما يحفز على التغيير من منطلق "المجازفة الكبيرة والمردود الكبير"، وهو ما يحدد ما معنى أن يكون الإنسان رائد عطاء حقيقي – وأن يكون في أعلى مرتبة في تسلسل ميمون الهرمي للعطاء.

وكما هي الحال في بداية أي مغامرة في ريادة الأعمال، يتطلب هذا النهج – الذي اسميه 'ريادة العطاء المحفز' – تخصيص رأس المال القادر على امتصاص الخسائر وبناء الخبرات في المجال المستهدف، للدفع بالتغيير على المدى الطويل. المسألة تتمحور حول الاستثمار بالوقت، وإثراء الخبرات، والمواءمة بين استثماراتك والقيم والبصيرة التي تتحلى بها، لكن من دون أن تتوقع مردود مالي في المقابل.

فرواد العطاء قادرون على توجيه مواردهم التي تحتمل الانتظار لتمويل عملية اختبار النظريات في عدة تجارب بهدف إيجاد الحلول للمشاكل الاجتماعية التي قد تبدو غير قابلة للحل أو التي قد يتطلب حلها وقتاً طويلاً، من دون أن يشعروا بالضغط من أجل تحقيق نتائج مباشرة كما هي الحال مع غالبية المستثمرين. 

وبخلاف باقي المستثمرين، ومع التزامه الطويل والمعهود بالتعامل مع الأمراض المعدية، وضع بيل غيتس موارده لإيجاد لقاح ضد جائحة كوفيد-19، وهذا لا يعد مجرد عمل خيري، بل هي ريادة عطاء قائمة على إحداث التغيير الحقيقي. 

يسير غيتس على خطى بعض أعظم رواد العطاء الذين سجل التاريخ أعمالهم، والذين كرسوا جزءاً كبيراً من ثروتهم في بناء الخبرات اللازمة للتعامل مع أصعب الأزمات الصحية في عصرهم. فجون دافيسون روكفلر، الذي ربما كان أشهر رائد عطاء في بداية القرن العشرين، وهب 530 مليون دولار من ثروته خلال حياته، ذهب 450 مليون دولار منها – أي ما يعادل اليوم 8.5 مليار دولار باحتساب التضخم - إلى الأبحاث الطبية.

عُرف روكفلر بعطائه الخيري التقليدي، لكن إرثه الحقيقي هو تمهيد الطريق للأجيال من بعده كي يسيروا على نهج العطاء المحفز على التغيير. فقد كانت المؤسسات التي أنشأها وقف روكفلر الخيري نشطة جداً في المساهمة في إيجاد لقاحات لداء دودة الانسيلوستوما والحمى الصفراء، كما كان لها دور حيوي في توفير اللقاحات والمساعدات الطبية للجنود خلال الحرب العالمية الأولى.

فيما عدا الوباء الحالي، يجب على رواد العطاء أن يفعّلوا تمويلهم لقضايا صحية أخرى وفي ذات الوقت يفعلوا ما بوسعهم لضمان استعدادنا للتصدي للوباء التالي.

وإحدى الوسائل للقيام بذلك هي من خلال الالتزامات المسبقة بالشراء – كما هو النهج المتبع لدى التحالف العالمي للقاحات والتحصين 'غافي' الذي يدعمه غيتس. وبما هو أشبه بمسابقات الجوائز الكبرى، تحفز هذه الالتزامات السوق على الاستجابة للقطاع والمشاركة بشكل أوسع في الاستثمار في تطوير وإطلاق الجيل التالي من اللقاحات اللازمة لمكافحة الأمراض.

وهناك العديد من المسائل الأخرى التي تمثل تحديات كبيرة لكن مردودها وأثرها كبيران، والتي هي أيضاً بحاجة إلى الاستكشاف ورأس المال المجازف الوفير والتحلي بالصبر – وربما قد تتم الاستفادة من نهج الالتزامات المسبقة بالشراء في مكافحة أمراض أخرى.

إن للاستثمار الاجتماعي المحفز الذي يقوده رواد العطاء دور حاسم في بناء النماذج التي لا تلقى التقدير الكافي على الرغم من قدرتها على تحقيق النتائج. ورواد العطاء، كونهم أصحاب رأس المال، يتمتعون بمكانة فريدة، فهم يمتلكون الحرية المالية للتصرف عندما يكون الآخرون غير قادرين أو غير راغبين بذلك.

وخلافاً لما عليه الحال مع الحكومات، فإن رواد العطاء غير مطالبين أمام الناخبين بالالتزام بأجندة مسبقة؛ وخلافاً للشركات أيضاً، هم غير محاسبين أمام حاملي الأسهم للتقيد بإطار زمني ضيق أو تجنب المجازفة في الأعمال.

وقد شهدنا مثالاً على ذلك في إطار الجائحة الحالية من خلال 'رأس المال الصبور' الذي تم استخدامه لإعطاء الزخم الأولي للبحث عن لقاح لكوفيد-19. ولهذا النوع من ريادة العطاء قيمة كبيرة جداً لمختلف القضايا الصحية العالمية.

إن عملي في مجال ضعف البصر كان خير دليل على نجاح رأس المال المجازف في إحداث تغييرات جوهرية. يعد ضعف النظر أكبر إعاقة لم تلق الاهتمام الكافي في العالم، حيث تشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 2.5 مليار شخص يعانون منها اليوم.

لقد تمكنت منظمتنا غير الحكومية ’البصر للأمة‘ Vision For a Nation، وبالتعاون مع حكومة رواندا، أن تنجز ما كان من غير الممكن تصوره في السابق، وهو تحويل رواندا إلى أول دولة نامية في العالم تجعل الرعاية الصحية للعيون في متناول جميع السكان.

بدأت حملتنا العالمية هذه تقطع أشواطاً في تشجيع قادة العالم بضرورة وضع مسألة تصحيح البصر ضمن أولوياتهم، وذلك ضمن إطار التسريع في إنجاز أهداف التنمية المستدامة، بدلاً من أن تبقى مسألة صحية ثانوية متراجعة في سلم الأولويات. 

وعلى الرغم من أن النظرة السائدة هي أن جميع أنواع التمويل الاجتماعي متساوية بعوائدها على المجتمع، إلا أنني أرى أن قيمة رأس المال المجازف أعلى بكثير. إن هذه الأموال غير المرتبطة بالقيود والأعباء والشروط التي تقلل من الأثر، والتي - خلافاً للتمويل المؤسساتي الذي لا يحتمل إلا الحد الأدنى من المجازفة – تتمتع بكل الحرية التي تمكنها من إحداث التغيير الحقيقي في العالم.

وفي إطار الوضع الراهن، فإن رأس المال المجازف هو الذي يتصف بالمرونة اللازمة لتطوير واختبار وتوفير اللقاح بسرعة لم يسبق لها مثيل.

أما فيما يتعلق بالحياة ما بعد فيروس كورونا، فالحكومات منشغلة كلياً بالحاضر – سواء على صعيد توفير القروض أو التمويل لإعانة الناس على العيش أو دعم الرعاية الصحية، أو غيرها من الأمور العاجلة، بينما غالبية المؤسسات التجارية تعاني من شبه الشلل، ومنشغلة بمشاكلها.

وهذا ما يضفي أهمية كبرى على عمل رواد العطاء حول العالم، فهناك فرص هائلة وحاجة ماسة إلى تبنيهم نهج ريادة العطاء المحفز وإلى أخذهم دور الريادة في التركيز على القضايا والتحديات الأخرى التي تواجه عالمنا اليوم – سواء على صعيد الصحة أو غيرها من المجالات – قبل أن تتفاقم هذه القضايا بدورها أيضاً.